تغييب الإنساني!
قراءة في رواية “ناريا” للكاتب : حسن علي أنواري.
بقلم : سراب الصبيح.
“سياسيًا أنا مع الاختيار الإنساني. أي: مع الاختيار الذي يجعل من الإنسان إنسانًا.”
محمد بنّيس.
تدور أحداث رواية “ناريا” حول عناصر رئيسة، منها الممالك، ومنها الشخوص. فأما الممالك: ناريا وبابل وبيبلوس؛ وأما الشخوص: الحكيم “إيليم” وابنه الحكيم “نسحو” وحاكم ناريا “ينماخو” وحاكم بابل “جلجامش”، وأما حاكم بيبلوس فله إضاءة في هذه القراءة ممتدة من توظيف شخصيته في الرواية، لكن الرواية لم تطلق عليه اسما.
إن ما أشير إليه في طليعة هذه القراءة هو قوة الكلمة التي تلبست جلباب البلاغة من الصفحة الأولى في الرواية التي وجهت القارئ إلى التعاطف مع العذاب الذي تلقاه الحكيم “إيليم” من قبل “ينماخو” على الرغم من أن القارئ حينها لم يعرف بعد ما إذا كان “إيليم” مخطئا أم مظلوما. وأيضا أشير إلى قوة الرواية في تمكنها من جعل “إيليم” حاضرا على امتدادها على الرغم من أنه قُتِل من الصفحة الأولى، ولم توظف الرواية له قولا واحدا، ولا حركة مشهدية، لكنه كان سيد الرواية الذي تحكم في سير أحداثها على الرغم من أنه غاب عن المشهد من الصفحة الأولى.
بين مقتل الحكيم “إيليم” في طليعة الرواية، وبين مقتل ابنه الحكيم “نسحو” في منتهاها، في نفس المشهد الوصفي نصا، يقع حضور “تغييب الإنساني”. فإن “إيليم” قُتِل تعذيبا في جريرة واحدة؛ وهي أنه يحمل الحكمة التي تعزز قيمة الإنساني، وهذا ما لا يريده “ينماخو”؛ لأن في ارتفاع الوعي الإنساني تُنبذ خرافاته التي ابتدعها ليبسط حكمه على الناس، فحمل الحكمة “نسحو” مغادرا “ناريا” بعد مقتل والده، ليعود في الوقت المناسب وينير بها عقول الناس.
المملكة التي توجه إليها كانت “بيبلوس” عند الحكيم “جانو” صديق والده. وهذا ما أردت أن أشير إليه؛ هو أن الرواية صورت هذه المملكة بمشهد حضاري على الصعيدين: التجاري والثقافي. بينما كانت “ناريا” بعد هروب “نسحو” مضرجة في حروبها الشخصية مع مملكة “بابل” فقط لغايات شخصية في توسيع النفوذ، وزجت جراء ذلك بأرواح العديد من الشباب، كما أنها لم تكن تنعم بقبول الآخر، وارتفاع المشهد الثقافي الذي بدوره ينعكس على ارتفاع المستوى الاقتصادي للبلد، وهذا ما يجعل القارئ يسأل: ما الذي فعلته “بيبلوس” ولم تفعله “ناريا” حتى تقدمت عليها تجارة واقتصادا؟ تنص الرواية بين سطورها أن الحكيم “جانو” من سكان “بيبلوس” كان مقربا من الملك ومستشارا له؛ وهنا تحديدا نجد الإجابة على السؤال: فإن ملك “بيبلوس” الذي اتخذ من حكيم مستشارا له قد عاد ذلك بالنفع على بلاده؛ لأنه يعطيه من حكمته ما من شأنه أن يصلح شؤون البلد؛ بينما “ناريا” التي قتلت الحكيم، وكان مستشاروها ممن يعززون لها خرافاتها فقد اندلعت الحروب الواهية بينها وبين مملكة “بابل”، وكانت متأخرة في المشهد الثقافي.
هنا تحضر آفات “تغييب الإنساني” التي لم تنعكس على الشعب الكادح في “ناريا” فحسب، بل انعكست أيضا عليها هي برمتها ممثلة في “ينماخو”؛ فإن العمل على الإنساني يرفع قيمة البلد في شتى الأصعدة، وبه تواجه الحروب ويقضى عليها، وبه أيضا يقضى على المجاعات، وحتى على الأمراض.
كما أن الرواية لم تنص على الحقبة الزمانية لأحداثها، لكن من عرض أوصاف اللباس والتنقل في السفر، يتبين أنها في العصور القديمة، حيث كان يتفشى الجهل، ويُحارب الوعي، ولا تقبله العقول، حيث كان الطبيعي هو “تغييب الإنساني”!
لقد نجحت الرواية في لغتها بتصوير المشاهد وكأنها لوح مرسومة يشاهدها القارئ بعينيه في ألوانها، لا كأنها حرف مكتوب باللغة. إن رواية “ناريا” قصيرة في حجمها، ماتعة في قراءتها.